إن التطورات التقنية السريعة التي عرفتها الحضارة الغربية والعالمية إجمالا، تبعتها تغيرات اجتماعية وثقافية مست مختلف جوانب حياة الأفراد، حتى سمي هذا العصر بعصر السرعة. وقد صارت ظروف الفرد في هذا العصر لا تسمح له بالدخول في أي مشاريع أو مهمات بعيدة المدى طويلة الأمد، بما في ذلك العلاجات النفسية. كانت بعض الطرق العلاجية الكلاسيكية تتسم بالقصر في مدتها، مثل العلاجات السلوكية؛ وبعضها تتسم بالمدة القصيرة نسبيا، مثل العلاج النفسي الفردي والعلاجات المعرفية؛ وهناك علاجات تتسم بالطول النسبي مثل العلاج المتمركز على العميل؛ ونوع أخير يتسم بالطول الزمني وهو التحليل النفسي. واستجابة لتغيرات العصر ومتطلبات المتعالجين صار من الضروري لأصحاب العلاجات المطولة -نسبيا أو كليا- التقليص والاختصار في مدة العملية العلاجية دون الإخلال بنتائجها. من جهة أخرى، لاحظ أصحاب العلاجات النفسية الدينامية أن ليس كل المتعالجين يحتاجون تدخلات معمقة أو مطولة، بل هناك العديد من المتعالجين تكفيهم تدخلات إرشادية أو عمل قصير المدى لإحراز التحسن المنشود. من ثم جاءت فكرة إنشاء العلاجات المختصرة لفائدة الجميع.
تعريف العلاج النفسي المختصر
يقصد به العلاج قصير المدة إجمالا. في الحقيقة، من الصعب تقديم تعريف يصف العلاج المختصر أي يحدد ما هي المدة القصيرة. عموما، يتم تحديد مدة العملية العلاجية بالوحدات الزمنية الأساسية، أي الأيام والأسابيع والأعوام. ولأن هذه المدة تتأثر بالفاصل الزمني بين الجلسات، فإن الوحدة الحقيقية لقياس مدة العملية العلاجية هي الجلسة، أي أن مدة المعالجة تحسب بعدد الجلسات. بيد أن عدد الجلسات في حد ذاته يخضع للعديد من العوامل المؤثرة، أهمها مدة الجلسة الواحدة. بغض النظر عن التقديرات الكمية لمدة العملية العلاجية، يعتبر وصف المعالجة بأنها مختصرة أو قصير المدى وصفا نسبيا، يخضع للعديد من المتغيرات، مثل الطريقة العلاجية المتبعة وطبيعة المشكلة. هكذا، ما يمكن اعتباره علاجا مختصرا وفق الطرق العلاجية الدينامية نجد يعد علاجا مطولا وفق الطرائق العلاجية السلوكية. لذلك، إجمالا، ينبغي الأخذ بعين الاعتبار هذا المتغير النظري في تحديدنا لقصر واختصار العملية العلاجية. فالعلاج المختصر هو مقارنة بالطريقة الاعتيادية وفق المقاربة العلاجية المتبعة من قبل المعالج، لذلك عموما نجد العلاج النفسي الفردي المختصر والتحليل النفسي المختصر والعلاج المعرفي السلوكي المختصر والغشطالتي المختصر وما إلى ذلك.
الفروق بين العلاج المطول والعلاج المختصر
هناك العديد من التباينات الجوهرية والتطبيقية بين هذا النوعين من العلاج، رغم أن العلاج المختصر هو في الأصل اختزال للعلاج المطول. ويمكن جرد أبرز التباينات في النقاط التالية:
– يسعى العلاج النفسي المطول لإحداث تغيير جذري في الشخصية، بينما يفضل المختصر البراغماتية والتقتير والتدخل الأقل جذرية ولا يؤمن بمفهوم “الشفاء”.
– يعتقد أن العلاج المطول أن التغيير النفسي المهم غير محتمل في الحياة اليومية، في حين يحافظ المختصر على منظور نمائي تجاه الكبار يرى أن حدوث تغير نفسي كبير أمر لا مفر منه.
– يرى العلاج المطول أن أعراض المشكلات تعكس اضطرابات أساسية أكبر، بينما المختصر يشدد على قوة وموارد المتعالج ويأخذ المشكلات المعروضة على محمل الجد (على الرغم من أنها ليس بالضرورة بالقيمة الظاهرة).
– يريد المعالج المطول أن “يكون موجودا هناك” حيث تحدث للمتعالج تغيرات هامة، أما المختصر فيقبل أن العديد من التغييرات ستحدث “بعد العلاج” ولن تكون قابلة للملاحظة من قبل المعالج.
– يرى العلاج المطول أنه يتمتع بجودة “خالدة” وأنه صبور وراغب في انتظار التغيير، بينما المختصر لا يقبل طول مدة بعض نماذج العلاج.
– المطول لا يهتم كثيرا للراحة المالية للمتعالجين رغم تكاليفها الباهظة، بينما المختصر غالباً ما يتجاهل القضايا المالية بسبب انخفاض تكاليفها.
– ينظر للعلاج النفسي المطول في كثير من الأحيان على أنها حميدة ومفيدة، أما المختصر فينظر إليه بأنه مفيد أحيانا وأحيانا أخرى ضار.
– يعتبر المطول أن وجود المتعالج في العلاج بمثابة الجزء الأكثر أهمية في حياته، في حين يرى المختصر أن وجوده في الحياة خارج العيادة أكثر أهمية من العلاج.
(BUDMAN & GURMAN. 1988)
فعالية العلاج النفسي المختصر
بالتأكيد، العلاجات المحدودة زمنياً الأقصر من العلاجات التقليدية لا يمكن إنكار أنها مؤهلة. هناك ميل عام للاعتقاد بأن كلما طالت مدة المعالجة النفسية كلما زاد مفعولها، أي أن العلاج الأطول هو العلاج الأفضل. في الواقع ، أظهرت الدراسات الأخيرة أن العلاقة الطردية بين عدد الجلسات العلاجية النفسية وتأثيراتها، لها أساس تجريبي من حيث النوعية المعتبرة. قد يبدو أن هذه النتائج تحاجج ضد الاختصار في العلاج النفسي. أي أن هذه البيانات تشير إلى أن المتعالجين الذين يحصلون على المزيد من التدخل العلاجي ينالون مزيدا من الاستفادة منها. مما يعني أن التحسين هو معادلة خطية ذات لوغاريتم عدد الجلسات. وبالتالي فإن وجهة النظر “العلاج الأطول هو العلاج الأفضل” تلقت دعما مبدئيا في مراجعات أخرى لنتائج العلاج النفسي الفردي.
في المقابل، نجد “النوعية المعتبرة” التي لمحنا إليها أعلاه تفيد بأن التحسن يكون أكبر بالتناسب في الجلسات المبكرة ويزداد بطأ مع زيادة عدد الجلسات. هذا التحليل يكشف أن عائدات العلاج تتناقص مع بذل المزيد والمزيد من الجهد المطلوب لتحقيق فرق ملحوظ في تحسن المتعالج. وأشار التحليل المذكور أعلاه إلى وجود أثر إيجابي رئيسي للعلاج النفسي الفردي يحدث في الجلسات (6-8) الأولى، تليها استمرارية ولكن بانخفاض الأثر الإيجابي خلال حوالي جلسات 10 المقبلة. من المثير للاهتمام أن نلاحظ أن أكبر نسبة من التغيير الإيجابي في العلاج النفسي الفردي تحدث في مجال (6-8) جلسات أي في وقت يوازي تقريبا مقدار الوقت المتوقع لبقاء المتعالجين مواظبين على العلاج. وأسباب توقف المتعالجين عن العلاج عديدة؛ تتراوح من تلك العلاقات بين الأشخاص، مثل عدم الرضا أو الصراع مع المعالجين، إلى دنيوية وعملية، مثل انتهاء تعويضات التأمين أو نفاذ ميزانية المتعالج؛ وهناك سبب آخر لمثل هذا الإنهاء “المبكر” لكثير من المتعالجين وهو أنهم قد تحصلوا على ما أتوا من أجله، أو على الأقل قدرا كبيرا منه.
هذا يمكن أن يعزى إلى أن المتعالجين في العلاج المختصر (ما بين 20-25 جلسة) في بعض الأحيان يتلقون تدخلات علاجية أزيد مقارنة بالمتعالجين في العلاج المطول. هذا يثبت أن جوهر العلاج النفسي المختصر لا يكمن في قصر مدته بل في القيم العلاجية والمواقف والأهداف التي لدى المعالج.
(BUDMAN & GURMAN. 1988)
أ.د خالد خياط جامعة بسكرة الجزائر