اعتبر أدلر أن “أكبر المقاربات مصداقية في استكشاف شخصية المفحوص هي : الذكريات الطفولية الباكرة ، والأحلام ، والموضع في تشكيلة الأسرة ، وصعوبات الطفولة ، وطبيعة العامل الخارجي الذي قد تزامن مع المرض
علم النفس الفردي هو مقاربة تتبنى مبدأ الغائية في فهم الحياة النفسية وليس المقاربة العلية أو السببية أو التحديدية. بناء على ذلك فإن :
– الذكرى الباكرة هي من إنتاج الفرد ، الذي قرر الاحتفاظ بهذا الحدث الخصوصي ، بدلا من كونها حاصلا سببيا لخبرة معاشة معينة .
– الذكرى الباكرة هي – إلى حد ما – مغايرة للوقائع الحقيقية (الموضوعية) ، وهي إلى ذلك الحد من بناء الفرد شخصيا .
– ضمن الذكرى ، كيفية استجابة الفرد للموقف المسرود أهم من الموقف نفسه .
في كل الأحوال ، يمكننا الجزم أن الذكريات لا يمكن أن تكون معاكسة لمنهاج عيش الفرد ، بل لابد لها من أن تتفق معه اتفاقا تاما. وعندما يتغير منهاج عيشه فإن ذكرياته سوف تتغير أيضا ، وسيتذكر أحداثا مختلفة ، أو على الأقل سوف يفهم أو يقدم تلك الأحداث بطريقة مغايرة .
الذكريات الأولى توضح الأصل الذى خرج منه منهاج عيش الفرد في أبسط صوره ، ويمكننا الحكم – من خلالها – على ذلك الفرد ، وعن المشكلات التي واجهته ، وكيف واجهها أو تعامل معها . كما تستخدم في العلاج النفسي لنبين للمفحوص كيف يتصرف ويواجه نمطيا المستقبل ، ويحتفظ بهذه الصورة معه منذ طفولته كمذكرة أو منبه لأجل المستقبل .
التوظيف النفسي للذكريات
لو أن فردا ما عانى من عقبة أدت إلى تخاذله وتثبيط همته فإن مثل هذا الشخص سوف يسترجع في ذاكرته العقبات السابقة. بالمقابل ، إن كان فرد ما مرحا وسعيدا وشجاعا فإنه يختار أن يتذكر مجموعة مختلفة من الذكريات ستكون كلها تتسم بالتفاؤل والسعادة . عموما ، أي شخص يكره فعلا من الأفعال فإنه يحاول تبرير هذه الكراهية عن طريق اختيار حدث من الخبرات التي مرت بهم في الماضي وتحميل هذا الحدث وزر تلك الكراهية
ما هي الذكرى الدالة نفسيا
لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه ” ذكريات بالمصادفة “. بالنسبة إلينا ، كل ذكرى -مهما بلغت تفاهتها- مهمة جدا لأنها تمثل أمرا ينبغي تذكره بالنسبة لهذا الشخص. وترجع أهميتها إلى كونها تصور الحياة كما يعرِّفها ذلك الشخص، فهذه الذكريات تقول له : ” إن هذا ما يجب عليك أن تتوقعه ” … ، أو ” إن هذا ما يجب عليك أن تتجنبه ” … ، أو ” هذه هي الحياة “. ولا يهمنا أن تكون الذكرى – التي يعتبرها الفرد أول ذكرى – هي حقا أول شيء يستطيع هذا الفرد تذكره عن طفولته المبكرة أم لا؛ إنما المهم أنه يعتبره هو أول الذكريات . وينبغي أن لا نفرق بين الذكريات القديمة والحديثة. ومن غير المهم معرفة ما إن كانت هذه الذكرى الأولى حقيقية أم من صنع خياله. إن الذكريات تهمنا فقط لكونها تمثل طريقة فهم الحياة وتأثيرها على الحاضر والمستقبل ، فالذكرى الباكرة تعكس وجهة نظر الفرد حول الدنيا وحول ذاته ومسار السلوك الذي اختاره لنفسه للتعامل مع الحياة
فحص الذكريات الباكرة
عندما ينوي الفاحص النفساني الحصول على ذكريات المفحوص الباكرة ، بعد أن يكون قد بنى علاقة علاجية تعاطفية كافية ، وأنجز عناصرا من بعض المهام الفحصية أو العلاجية المطلوبة ، على وجه الخصوص فحص تشكيلة الأسرة بمختلف فروعه ، يتوجه هذا الفاحص إلى مفحوصه بالطلب التالي : “اجتهد أن تعود بذاكرتك إلى الوراء ، إلى أبعد محطة ممكنة في ماضيك الطفولي ، وحاول استرجاع وسرد أقدم ذكرى احتفظت بها ذاكرتك منذ أعوام عمرك الباكرة ” .
الذكرى الباكرة حصرية ليست تذكرات عامة
من الشائع أن يقدم لنا المفحوصون ذكريات عامة تشير إلى أمور متكررة الحدوث في حياتهم ، مثل قولهم : ” كنا دائما نلعب …” ، ” كل صيف أذهب إلى الشاطئ و…” هذه في الحقيقة ليست بذكرى باكرة ذات دلالة نفسية بالنسبة للفاحص ، بل هي مجرد تقرير عام حول ماضي المفحوص . في حين أن الذكرى الباكرة هي سرد مركز على واقعة محددة بعينها من الوقائع التي يتذكر المفحوص أنها حدثت في ماضيه الباكر .
مفاتيح قراءة وتأويل الذكريات الباكرة
في هذا العمل ، لا نركز على دراسة المحتوى الظاهر الذي يفهمه الجميع بسهولة وهو أحداث الذكرى ، بل أن نحرص على سبر أغوار منهاج عيش الفرد من خلال الذكرى. وأسئلة الفاحص النفسي الفردي تزودنا بمساعدة معتبرة :
– أين يريد هذا الفرد الوصول ؟
– ما الفكرة التي كونها عن ذاته ؟ وعن الحياة ؟
– ما الفكرة التي كونها عن الغير ؟
– كيف يسعى لأن يعيش تحت ضوء هذه المعطيات ؟ لتفادي الوقوع في خطأ أثناء وبعد تأويل الذكريات ، إن اكتشفنا في ذكرى فرد ما قانونه الدينامي الفعلي ، لابد عليه أن نجد نفس القانون الدينامي في كافة أشكال التعبير الأخرى … وعلينا أن نجمع مقدارا كافيا من الأدلة اللازمة لإقناع المتعالج بدقتها من خلال وضوحها الجلي
تاريخ الذكرى
من المهم بالنسبة للفاحص الأدلري الانتباه للسن الذي حدثت خلاله الذكرى إن ذكره المفحوص . لأنه يثير التساؤلين الجوهريين التاليين :
– لمَ يتذكر المفحوص هذه السن ؟
– ولِما لم يتذكر المفحوص أي شيء جرى قبل هذه الذكرى ؟ إن الجواب الدقيق عن هذه الأسئلة سيكشف عن الاهتمام الجوهري الذي بني حوله منهاج عيش هذا المفحوص .
شخصيات الذكرى المسرودة
على الفاحص أن ينتبه إلى الشخصيات الحاضرة في الذكرى والغائبة عنها . من المهم أن نلاحظ من الأشخاص الذين يقومون ببطولة الأحداث في الذكرى . يحاول الفاحص تحديد قرب وبعد وضعيات هؤلاء الأشخاص عن المفحوص، من الذي كان بجانبه ومن كان بعيدا عنه ، ويحاول الاستفسار عن خلفيات هذه الوضعيات . ويمكن للفاحص أن يسأل عن الشخصيات الغائبة في الذكرى ، وعن مبررات غيابها . فقد تكون لبعض الغيابات دلالة خاصة ، خاصة إن لاحظنا حضورا فاعلا لشخصية في بعض الذكريات وغيابها في أخرى
الموضوع الرئيسي (الجوهري)
المقصود بالموضوع الجوهري أو الرئيسي هو الموضوع النفساني الذي يسيطر على وجدان المفحوص ، الانفعال المبطن أو الاهتمام الجوهري الذي تغلفه أحداث الذكرى . قد نستخلص من ذكريات الوفاة أو المرض موضوعا نفسانيا رئيسيا يتعلق بـ “الخوف” من الفقدان أو الفراق أو المرض أو الألم مجددا . وتكشف تلك الخاصة بالذهاب الأول إلى الحضانة أو المدرسة عن الانطباع القوي الذي تخلقه الوضعيات الجديدة . والذكريات المتمحورة حول المخاطر والحوادث ، وكذلك حول الجزاءات والعقوبات ، تكشف عن ميل شديد إلى تثبيت الانتباه أساسا على العناصر المكروهة في الدنيا . ويمكن أن تشير الذكريات المتعلقة بذنوب مقترفة وسرقات واعتداءات جنسية إلى ميل واضح إلى استبعادها في مقبل حياة المفحوص
درجة نشاط ونافعية المفحوص
يتجلى النشاط بوضوح من خلال كثرة الأفعال . فإن كان نشطا علينا أن نعرف هل كان نشاطه مساهمة أم هروبا ؟ وإن كان نشاطه مساهمة فهل هي نافعة أم ضارة ؟ هل كان نشاطه متمركزا على ذاته أم على التكافل ؟ وكذلك حال الخمول إن وجدناه ، هل كان سلبيا (حياديا) أم ضارا ؟ علينا بالخصوص أن نلاحظ : – ” ما إن كان هذا الفرد يتحرك نحو التكافل أم بعيدا عنه ؟
الانفعالات المرتبطة بالذكرى
الذكريات تتضمن الانفعال الذي يختزنه ويحتفظ به المفحوص منذ بدايات حياته ، والتي بنى عليها شعوره تجاه ذاته والآخرين والدنيا . إنها تكشف الانفعال الذي بني عليه منهاج عيش الفرد .
يحرص الفاحص الأدلري أن يطرح على مفحوصه سؤالا حول انفعالاته ومشاعره خلال وقوع الذكرى وعقب انتهائها والمدة التي استغرقها بقاء هذه الانفعالات ، وأن يلاحظ هل مازالت هذه الانفعالات حاضرة خلال سرد الذكرى ومدى شدتها . وكيف يوظف المفحوص انفعالاته في المواقف المسرودة ، والغرض الذي تخدمه هذه الانفعالات في هذه المواقف .
الأنماط الدافعية
الحسي
للنمط البصري ذكريات أولى مثل : ” أخذت أنظر من حولي … ” ، أو سيصفون ألوانا وأشكالا مختلفة . وكذلك الحال بالنسبة للأنماط الحسية الباقية (السمعي وغيره) .
الحركي
يمكن أن تكشف الذكريات الأولى اهتماما بالحركة مثل السفر والركض والقفز والسياقة . فالأطفال الذين يعانون من إعاقة جسدية سيعبرون عن رغبتهم في المشي والجري والقفز في ذكرياتهم الأولى . وكثير من الأشخاص لم يحسنوا الحركة في مستهل حياتهم لضعفهم أو لإصابتهم بالكساح ، وهؤلاء يصبحون شديدي الاهتمام بالحركة إلى درجة غير عادية ، ويريدون دوما أن يسرعوا في مشيهم
الغريزي
من الناس من يظن أن العلاقات الجنسية هي أساس كل شيء . فنرى شخصا ما قد يصيبه ما نستطيع أن نسميه شذوذا في الناحية الجنسية مثلا ، أي أنه يعنى بشؤونها أكثر من عنايته بكل ما عداها من الشؤون .
الاهتمامات
كثير من الذكريات الباكرة ترتبط بمواقف خطيرة ، والأشخاص الذين يسردونها هم بشكل عام من أولئك الذين يشكل استخدام الخوف بالنسبة لهم عاملا هاما في منهاج العيش . ومن أنواع ذكريات المخاطر أن يذكر الشخص موتا حدث في عهد طفولته . ذلك أن الأطفال إن رأوا شخصا يموت ميتة سريعة مفاجئة أحدث ذلك في نفوسهم أثرا قويا جدا . قد يدخلون في اكتئاب وحداد وقد لا يدخلون ، لكنهم قد يحصرون عنايتهم بعد ذلك في الموت ويشغلون أنفسهم على الدوام بكفاح المرض والموت بصورة ما
خلاصة
لقد سعينا عبر هذه الصفحات المسطورة إلى تقديم أحد أهم مفاتيح التعرف على شخصية الفرد وسبر أغوارها في علم النفس الفردي . عرفنا أن الذكريات الباكرة تكتسي أهمية قصوى بالنسبة للفاحص النفسي الذي يسعى إلى التعرف على ما يجري في أعماق نفسية مفحوصه ، فهي تعبد له طريقا سريعا إلى ذلك . وفوق ذلك ، تكتسي أهمية إضافية بالنسبة للمعالج ، فهي توفر له أداة تسمح له بفهم الحياة النفسانية لمفحوصه في امتدادها التاريخي من ماضيه الطفولي إلى حاضره الحالي . وتفيده في تسهيل إقناع المفحوص بما توصل إليه من مفاهيم وتفسيرات صائبة لطبيعة منهاج عيشه وعلاقته بمشكلته النفسية ، نظرا لما تتيحه من تصوير حي لأداء المفحوص في مواقف من صياغته الشخصية . لذلك يحتاج كل فاحص نفساني في ممارسته العيادية أن يتمكن استخدام هذه الأداة الأدلرية الفحصية العلاجية بمهارة وفعالية ليسهل على نفسه إنجاز مهامه بأقل جهد وأقصر زمن وأعمق سبر .
أ.د خالد خياط. جامعة بسكرة. الجزائر